نادين أيمن تبتكر كسمولوجيا جديدة في قصة “فوق الدولاب”

نادين أيمن تبتكر كسمولوجيا جديدة في قصة “فوق الدولاب”

ربما تتسبب مراقبة تفاصيل الطبيعة إلى التوحد معها في ما يخصها وهو أمر علمي تماما، وعبرت عنه كذلك نظريات فلسفية كالتي تبناها فيلسوف التنوير الهولندي في القرن السابع عشر، باروخ إسبينوزا، من خلال مناداته بوحدة الكون.

لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد في قصة “فوق الدولاب” للقاصة المصرية الشابة، نادين أيمن، حيث صنعت بخيالها، الذي تقدمه على أنه حقيقة، عالما إنسانيا تماما ولكن أبطاله من العناكب التي لها أسماء آدمية وتكابد مشكلات أسرية بشرية تماما، بل وزادت على ذلك بأنها هي نفسها انتقلت من عالمها الواقعي كإنسانة إلى كائن فانتازي لم تخل ممارساته الفانتازية من التأثر بهواجس ممارسات مزعجة تتعرض لها البطلة الواقعية في تعاملاتها مع أسرتها.

أي خيال ذلك الذي صنعت به القاصة الشابة عالما يصهر الطبيعة بالميتافيزيقا وأدخلت به إشكاليات اجتماعية إلى قلب الفانتازيا، وجعلت به عالما موازيا افتراضيا تكئة لحدسها الإنساني الأنثوي، الذي جعلها في نهاية القصة لا تتورع عن إظهار مدى إيمانها بأن مشكلات عالم العناكب التي تابعتها هي بالفعل مقدمات لشيء ما تترقبه بخوف ترتجف من شدة صدقه.

إن لوحة سريالية كهذه تستدعي الاعتراف ببراعة نادين، على حداثة سنها، في العبث الواعي بالفيزيقا والميتافيزيقا والسيكولوجيا والسيسيولوجيا لتخلق كسمولوجيا جديدة على طريقتها الخاصة.

وفي تصريح إلى “عشرينات” قالت القاصة الشابة نادين أيمن إن أغلب كتاباتها سيريالية وتعتمد كثيرا على تقنية تيار الوعي، موضحة أنها لا تتبنى شكلا محددا في الكتابة في حين أنها تحاول الاهتمام أكثر بالمضمون لأنها تعتقد أنه الأهم من وجهة نظرها، على الرغم من الاهتمام الزائد الذي يوليه أبناء جيلها للشكل.

وعن إصدارها الأول نوفيلا “الفئران لا تفسد الوضوء” أشارت إلى أنها كانت تجربة ممتعة وظروف كتابتها كانت متميزة بالنسبة لها أكثر منها هي نفسها، لذلك فضلت أن تكون أول أعمالها المنشورة على الرغم من أن لديها إنتاجا آخر في القصة القصيرة.

وكشفت القاصة الشابة لـ”عشرينات” أنها تعمل حاليا على تجهيز مجموعة قصصية لكنها لم تحدد موقفها بعد من موعد نشرها، مشيرة إلى أنها مهتمة بتكثيف قراءاتها وتنويعها، منوهة بأنها تنوي على المدى البعيد إنتاج أعمال في كل الأنواع الأدبية لاسيما الرواية والمسرحية.

فوق الدولاب

سمير كان هو العنكب ودارين هي العنكبوت.

أعلم جيدا بوجودهما في حجرتي منذ زمن, لكن طوال تلك الفترة لم يكن هناك ما يثير أية قلاقل. كانا قمة في الانسجام. أنا لا أحاول إنكار أنني رأيت دارين في أكثر من ليلة تلملم أشياءها غاضبة وتنسج خيوطا لا نهائية وقد قررت أن تفارق سمير بشكل أبدي لا يحتمل أي جدال ولا أنكر أيضا أن السبب في كل مرة كان قمة في التفاهة, فمثلا سمعت دارين مرة تبكي لأن سمير استيقظ  وقد ذهب إلى عمله دون أن يقبّلها قبل أن يغادر.

بعد أن تناولتُ ذلك القرص الضخم الذي بدوره يُشكّل ليلة خالية من الأحلام السعيدة أو الكئيبة ويمنع استحضار أي نوع من الذكريات السعيدة أو الكئيبة -ولو بأمر ملكي- فقط يجعلك تحلق بعقلك الواعي واللاواعي في سقف الحجرة الذي تساقط بياضه أو لم يتساقط  أو تساقط البعض منه ليريك عوالم قد ارتسمت, هي الأحرى بالاهتمام والانفعال بل والمتابعة اللحظية.

كان القرص يتراوح بين 1750 و1800 ملي جرام وفي كل ليلة لا أتساءل كيف له أن يمر من حلقي بجرعة من الماء دون أن يقوم فرد أو اثنان بدفعه.

كانت هذه من أغرب الليالي منذ عهدت سمير و دارين – ربما كانت الليلة الأخيرة, ربما كانت الليلة الأولى-  استشعرت حركة غريبة فوق الدولاب, ظننت في بدء الأمر أنهما يلعبان سويا بعد أن قام سمير باستردادها ومصالحتها أو أنهما يتراقصان علي ضوء أباجورتي الخافت أو أنهما يريدان أن يستدعياني كي أشاركهما اللعب مثلا  أو أشاركهما العشاء لأنهما يتابعاني مثلما أتابعهما و قد أدركا أنني قررت أن أنام هذه الليلة دون عشاء.

هرع فضولي إلى السلم الخشبي المجاور للدولاب مُفضلا ألا يقتلني فهو أحيانا يتخذ بعض خطوات ليريحني من طرح أسئلة أعلم أن أحدا لن يجيبني عنها.

أخذت أصعد سُلّمة سُلّمة وأنا في حيرة لا تهدأ كلما صعدت, بل تتضاعف.

ما إن لمحت تلك الخيوط  الحريرية -أو هكذا افترضت- تملأ السقف, اختل توازني وسقطت على أرضية الغرفة السيراميكية.

سمع أخي الصغير الذي يلعب “البلاي ستايشن” في “الأنتريه” صوت ارتطام جسدي بالأرض الجافة تماما, فتح الباب ليجد رأسي قد انفصل عن جسدي.

لم يشهق مثلا أو حتى يندهش فقد اعتاد هذا الأمر ولم يكن فيه “أي غرابة”. اقترب مني وأحكم تركيب رأسي فوق رقبتي. شكرته, ومن دون أن يجري أي حوار بيننا، خرج وأغلق الباب.

لم “تطرطش” الدماء لتغرق الأرض, في تلك المرة وفي كل مرة, كانت الأرض جافة تماما, لا أدري هل هذا بسبب أنني أنفر من مشاهدة الأفلام الدموية وبالضرورة لن أسمح بهذا الابتذال على أرض الواقع أم لأن والدتي تنزعج من القذارة- رغم أنني أمتلك فصيلة دم نادرة وطالما ظننت أن دمائي لابد أن تعبأ في زجاجات عطر– لا أدري ما السبب, المهم أن الدماء لم تطرطش” عندما انفصل رأسي عن جسدي.

الخيوط العنكبوتية المتشابكة ألاحظها في كل مرة أصعد فيها السلم الخشبي. الخيوط تتشابك في مرارة أتذوقها جيدا وتتضخم وتتكاثف لتملأ محيط الغرفة، وفي كل مرة يدركها بصري عن غير قصد. وفي كل مرة يختل توازني لأسقط على الأرض الجافة تماما فيدخل أخي الصغير ليجد رأسي قد انفصلت عن جسدي وعينيّ  “تُبربش”، لا يندهش، يثبتها جيدا فوق رقبتي ويخرج في صمت.

مازال هناك شيء غريب يحدث فوق الدولاب. ازددت قلقا.

قررت أخيرا أن أغمض عينيّ وأنا أصعد السلم الخشبي, نظرت فوق الدولاب لأجد سمير ودارين قد تشابكا بالأيدي أو بالأرجل -لا فرق- أعتقد أن بعض إهانات أدركت مسامعي من الطرفين, أعتقد تقريبا أنهما قد فقدا احترامهما لبعضيهما– وددت أن أتدخل لأصلح بين الطرفين ولكن إيقاع العراك وتطورات الأحداث كانت أسرع مما أتوقع, قام سمير بكسر إحدى أرجل دارين وأخذت تنزف دماء أقسم إنها حمراء, لم يلبث أن هجمت عليه دارين وفعلت فيه ما فعل.

لا أدري هل كانا فعلا يحبان بعضهما بعضا؟ أم أنني لم أراقبهما بشكل جيد؟ أم أنني لم أستطع تقييم الأمور بشكل صحيح؟ أم أنه ليس سمير وهي ليست دارين وقد حل محلهما ساكنان آخران على غفلة مني لا أعرف اسميهما ولم أتعرف أصلا عليهما؟!

قفزت فوق الدولاب.. أزحت بعض الكراكيب جانبا.. ألقيت بسمير ودارين -اللذين لا أحبهما أصلا- من فوق الدولاب حتى تنكسر بقية أرجلهما إذا ما استجاب الله دعائي ولم يستنجدا بالغلاف المتين الذي تكون من خيوطهم الحريرية.

في الحقيقة لم أعتن بالدماء التي سوف “تطرطش” منهما إذا ما انكسرت أرجلهما وانفصلت تماما عن جسديهما.

أستلقي على جانبي.. وجهي في مقابلة الحائط.. ظهري في مقابلة الذي أخشي إدراكه.

أضم ركبتيّ إلى صدري.. أحتضنني.. أرتجف بالقدر الذي لا يرتجف معه الدولاب.

هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات