الهيكل الفني البسيط لمعنى الميراث كما يعرفه عامة الناس هو البحث عن الحقوق المادية، أما الميراث المعني في مراوحة زمنية مكانية يأخذ طابعا آخر يتمثل في بنية دائرية فنيا ونفسيا لتنطلق فكرة الميراث من معني مادي إلى قيمة أعمق تتعلق بمفهوم الهوية معنويا وإنسانيا وتمزقاتها بين المحلي والعولمي.
هذه الفكرة تم التعبير عنها فنيا في رواية “الميراث” للكاتبة الشابة أمل صديق عفيفي من خلال تناول عوالم روائية تفيض بالتفاصيل والأحداث وزخم الشخصيات وتناقضاتها، والرواية الصادرة أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية هي رواية تكتنز بكثير من المعاني وتذهب بمعني الميراث إلى آفاق بعيدة عن فكرة الأموال والعقارات التي قد يرثها المرء كاستفادة وقتية.
ويصل المعنى المباشر من الرواية مع عودة يوسف من أمريكا إلى وطنه مصر بعد أعوام طويلة من الغربة باحثا عن حل لمشكلاته فيجد في واقعه الجديد ما هو أعقد ويدخل في رحلة البحث عن ميراثه ومن هنا تبدأ رحله البحث عن ميراث بمعنى آخر متمثلا في رحلة الرحيل بداية ثم العودة، ثم التفكير في الرحيل مرة أخرى، ورفض هذه الفكرة، لنجد أن كل شخصيات الرواية تتوزع فيهم فكرة الاغتراب والرغبة في الرحيل مكانيا وزمانيا جسديا وروحيا فمنهم من يريد مغادرة المكان بجسده ومنهم من يريد العودة بالزمن إلى الوراء.
وتقول مؤلفة العمل: بطلا العمل رجل وامرأة الأول اغترب جسديا ثم عاد ليدخل في الاغتراب أي الانفصال النفسي والروحي عن الواقع الضاغط بمشكلاته فيدخل إلى الاغتراب بمعناه الفلسفي الواسع لكنه يتدارك نفسه ويحاول الاندماج مع واقعه محاولا تغييره كذلك فإن العديدين من أبطال العمل مصابون بهذا الاغتراب ومنفصلون عن الواقع لكنهم لا يحاولون تغييره ويرون أن حل مشكلاته يكمن في استخراج كنز (مادي) يعوضهم عن فقرهم الواقعي روحيا وماديا لكن البطل وقد عادت إليه شخصيته المصرية يرفض استكمال هذا المخطط ويقرر البقاء في وطنه محاولا تغييره إلى الأفضل مع مراعاة الأجيال المقبلة في اكتشاف كنوز أجدادهم التي تتمثل في تراث مادي وروحي.
(كان منصور لا يزال يحاول إقناع يوسف بالعدول عن رأيه مشككا في أنه اتخذ القرار الصحيح محاولا حثه على الإقدام على الحفر بعد الاستعانة بشيخ جديد خصوصا أنهم تأكدوا من وجود مقبرة ولكن يوسف أصر علي الرفض قائلا: أنا مش عايز الفلوس الملعونة دي ثم أضاف مبتسما: بكرة هييجي ناس ثانية، وأيام ثانية وهتبقى الدنيا غير الدنيا وواحد من أولادي هيدخل التاريخ لأنه عمل كشفا عظيما).
وهكذا يرفض البطل فكرة كون الميراث هو معنى مادي وفقط تحل عبره مشكلات آنية إلى معني أعمق يشكل هوية المواطنين ومناط وجودهم وهو ما تعمدته الكاتبة رغم أن القارئ من الممكن أن يقع في فخ بساطة الحكي الذي انتهجته كإستراتيجية فنية لها ليتسرب المعنى الأعمق لفكرتها وتصوراتها في الوجود.
وتلتقط أمل عفيفي الحديث ثانية لـ”عشرينات” قائلة: الرواية كتبت أساسا كسيناريو فيلم لكن “ما عادت الجمل الحوارية على لسان الأبطال تكفيني، لذا قررت أن أحول الفيلم إلى رواية لشعوري أنها محاطة بأجواء واقعية تشي للقارئ بأن ما يجري أمامه في سطور الرواية هو شيء يقع فعلا أمامه وهي تذكر الكثير من الشخصيات الواقعية التي شاركتني فكرة العمل وشكلوا عالمي الروائي فاذكرهم بأسمائهم الحقيقية وأثمن أدوارهم فهم عالم من الأشخاص الحقيقيين والقراء الحقيقيين لتكتمل فكرة الدائرية في الرواية شكلا وموضوعا واقعا وخيالا وهي مهداة إلى المفكر الكبير الدكتور علاء الأسواني الذي أعاد جيلا بأكمله إلى الكتاب.
يذكر أن الروائية آمل صديق عفيفي حاصلة على درجة الدكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة آستون بانجلترا، ولها عدد من المؤلفات منها روايات “يوم من الأيام”، و”نقطة ومن أول السطر”، و”أنفلونزا الحمير”، و”أيام في حياة محمد علي”، بالإضافة إلى سلسلتي كتب للأطفال “رحلة الزمان”، و”حكايتنا كلنا”، وشاركت في كتابة السيناريو للعديد من الأفلام الروائية الطويلة.
هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات
الوسومأمل عفيفي الاغتراب الميراث رواية