على أعلى هضبة في باريس جلست أمامه متأملاً أمواج الشعر الأبيض في رأسه تستولي على ما بقي فيه من سواد. قطع تأملي بقوله : إن كنت تظن أني سأرسم نسخة مطابقة لك فالأجدر بك أن تذهب لمصور فوتوغرافي يصورك، أما أنا رسام، أبدع لك رسماً وفق حالتي النفسية ورؤيتي الخاصة.
أثار فضولي وأطلق لساني فمازحته: إذا ضمنت لي رسمة جيدة فلن أستبدلك بأيٍ من الرسامين الموجودين هنا! من أين أنت؟ لك ملامح عربية! هل أصولك عربية؟
بابتسامة براقة فيها شيء من الثقة أجابني نافياً: أنا ليوناردو من ليفورنو بإيطاليا، درست الرسم في جامعتي فيينا وباريس. فتعجبت! أكمل وكأنه يجيب على تعجبي: أنا أحب الفن للفن، كان حلمي دائماً أن أصبح رساماً، لهذا تفرغت لرسم السياح هنا منذ ثلاثين عاماً.
وعن ملامحه الشرق أوسطية علل: نحن اللاتينيين نشبهكم كثيراً وتزاوجنا معكم عندما كنتم بأسبانيا، ماذا تسمونها؟
( اها ) .. نعم .. أندلس. من يدري! لعلي ألتقي معك في جد من جدودنا.
تصاعد فضولي تجاه مخزونه الثقافي فأردت أن أحفزه للحديث أكثر: أعرف فريق ليفورنو لكرة القدم -هنا فتح عينيه تعجباً – ولا غرابة في كونك رسام، فإيطاليا أنتجت دافينشي ومايكل أنجيلو! -هنا تبع فمه عينيه فبلغ تعجبه أقصاه- أنا خالد من قطر بالمناسبة، دولة صغيرة الحجم في الخليج العربي.
الجزيرة .. بترول .. نقود .. نادي باريس سان جيرمان! قالها منتصب الظهر فرحاً كالذي نجح في حل كلمات متقاطعة! واسترسل: طوال ثلاثين عاماً قضيتها هنا في ساحة الرسامين بساحة (روح القدس) استقبلت الكثير من الخليجيين من قطر وغيرها.
بعد حديث ودي عن قطر والمنطقة العربية سألني أتعرف ما مشكلتكم، إن سمحت لي؟ أومأت برأسي أن أكمل – وفي نفسي قلت المسكين لا يعرف لنا إلا مشكلة واحدة! – قال: كنتم تظنون أن المال هو كل شيء، وهذا خطأ. المال نعمة إن لم تلجم بالعقل والعلم أصبحت نقمة.
أكمل: أنا أرى شبابا عربا يملكون أرفه السيارات هنا في باريس وأتساءل، ما الذي سيدفع شاباً تجري الأموال في يديه جريان الدم في العروق إلى التعلم والعمل؟
اسمعني يا صديقي، العلم والعمل هما نبراس هذه الحياة. أن يستيقظ الواحد منا كل صباح طامحاً لتعلم المزيد بغية نفع مجتمعه، ذاك أسمى أهداف الإنسانية، أما المال، فهو عدو للعلم إذا جرى بين يدي جاهل.
ختم: الحال اختلف الآن، أعجبني الشباب الخليجي الذي قابلته خلال السنوات الأخيرة، فهو متطلع ومثقف وواع وحريص على التعلم ومنفتح على الآخر، أتعلم يا صديقي؟ أظن مستقبلكم أشد إشراقاً من مستقبلنا. أنا أرسم الجميع وأتحدث مع الجميع، أستطيع التأكيد لك إن استمريتم على درب العلم والعمل بأن شبابكم خير من شبابنا … ( اها ) انتهيت من رسمك!
رأيت الرسمة -ويا ليتني لم أفعل- وقلت لليوناردو ممازحاً : لو أني ذهبت لمصور فوتوغرافي….!
ودعته وواصلت مسيري في باريس.
هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات
الوسومالخليج باريس رسام روح القدس عرب قطر ليوناردو