محمد الحمروني – تونس
وأنت تتحدث معه تلفت انتباهك نبرة العزة والاعتداد بالنفس التى يشعر بها بعد ما تحقق في تونس من ثورة ساهم هو وعدد من أصدقائه وإخوانه ورفاقه في صنعها. هو لم يعد يذكر كما قال عدد المرات التي وقع إيقافه فيها من قبل أعوان الأمن ولا عدد الأجهزة التي صودرت منه. انه المدون والصحفي والكاتب معز الباي صاحب المدونة الشهيرة بأجنحة ماغون وأحد الذين تعرضوا إلى التضييق والمحاصرة والإيقاف أكثر من مرة بسبب نشاطه “الافتراضي”. وفي هذا الحوار نحاول من خلال الباي أن نرسم صورة لشباب تونس من المدونين الذين خاضوا معركة إعلامية شرسة ضد عمار 404 وأجهزة الرقابة التونسية وبوليس الانترنت. كما سنحاول الولوج إلى عالمهم الذي يتخفون فيه وراء أسماء مستعارة لم تمنع من أن يتحول عدد منهم إلى رموز سياسية على غرار سليم عمامو المدون الذي أوقف زمن بن علي وأصبح كاتب دولة في الحكومة الحالية. وهذا نص الحوار
– بداية من هو معز الباي؟
معز الباي، شاب وصحافي تونسي، متعدّد الاختصاصات. اعمل براديو كلمة، بعد ان درست الإلكترونيك ثمّ الإعلامية في بداية التسعينات، وتخصّصت في تطوير المنظومات الرقمية ثمّ في الحماية الالكترونية، إلى جانب اهتماماتي الأخرى ومنها خاصّة الأدبيّة حيث نشرت رواية بعنوان “النمّام” ولي رواية أخرى تحت الطبع.
– كيف كانت بدايتك مع العالم الافتراضي؟
تعرّفت إلى هذا عالم منذ بدايات الانترنت في تونس، وقبل أن يولد التدوين. وحين خضت تجربتي الصحفيّة، أدركت أن التدوين بعد هامّ ووجه آخر للصحافة، يكرّس مفهوم صحافة المواطن، فأنشأت مدوّنة صحفيّة، إلى جانب مواقع سبق وأنشأتها في مجال الإعلام الثقافي خاصّة. كانت البداية قبل التدوين بالكتابة في بعض المواقع سواء التي أنشأتها مع بعض الأصدقاء أو مواقع أخرى. وحينها كانت الفضاءات العامّة والصحف المحلّية والوطنيّة مغلقة في وجوه الأقلام الحرّة، فبحثت عن فضاء يتّسع لما ضاق به الورق، ولم يكن أمامي غير الفضاء الالكتروني، الذي كنت أشعر معه بألفة كبيرة نتيجة تكويني.
بعد ذلك أنشأت مدوّنة (أجنحة ماغون) وقمت بنشر نصوصي عليها سواء التي كانت ذات الطابع التدويني (الذاتي والانطباعي) أو الإبداعي (الأدبي) أو الصحفيّة. كما لجأت ككلّ الأصوات المنفيّة والمغتربة في تونس إلى المساحات الاجتماعية على غرار الفايسبوك.
– ولكن ما هي الدوافع التي حثتك على ولوج هذا العالم؟
منذ بدايتي مع الأدب آمنت أن الكتابة يجب أن تكون تفاعليّة أي أن يشترك الباثّ والمتلقّي في إنشاء المعرفة، وهو ما تتميّز به الكتابة الالكترونية، ومن خلال التفاعل مع القارئ- الكاتب، كانت التجربة تتطوّر، وأضحى التدوين حياة أخرى أو بعدا آخر للحياة وسط الالكترونات الحرّة من كلّ رقابة.
– وكيف تحولت الرغبة في الكتابة إلى مقاومة للاستبداد؟
لا بالعكس فالنضال سبق التدوين في حالتي، وقد وجدت في التدوين أداة قويّة وفعّالة لإيصال صوتي وصوت المضطهدين إلى أوسع الشرائح. وقد أثبت الإعلام الالكتروني وخاصّة منه الإعلام المواطنيّ نجاعته وفاعليّته منذ زمن، فقد كنّا ندرك الدور الذي لعبه التدوين في خلق بديل عن الإعلام الرسمي في الولايات المتحدة إثر أحداث 11 سبتمبر، كما لعب دورا في تسليط الضوء على أحداث الضواحي الفرنسية وفي كشف حقيقة المستور الذي تكتّم عنه الإعلام الرسمي الفرنسي في علاقة بالانتهاكات في حق الجالية المغاربية والإفريقية إبّان تلك الأحداث. أن تمثّل هذا الدور للإعلام المواطنيّ هو ما دفعنا إلى محاولة اكتساح الفضاء الافتراضي ومحاولة تأثيثه للتواصل مع أوسع شرائح الرأي العام وخاصّة الشباب.
– تريد ان تقول ان عدم وجود مساحات للحرية هو الذي دفعكم إلى خوض معركة حرية التعبير عبر العالم الافتراضي؟
نعم فقد كان المدوّنون التونسيّون روّادا في خوض معركة حرية التعبير وحرية التدوين وأطلقوا بادرات وحملات ضدّ الحجب ومن أجل حرية الكلمة كان لها صدى عالميّ، على غرار يوم (حرية التدوين) و(التدوينة البيضاء). وكنت من موقعي الإعلامي أتفاعل مع هذه المبادرات وأتابعها وأرصدها وأعرّف بها وهو ما فسح لي المجال للتعرّف على طاقات شبابيّة خلاّقة، صنعت ربيع تونس بعد قحط وجفاف أكثر من نصف قرن من السنين العجاف.
– وماذا عن دور المدونين خلال الثورة الأخيرة؟
لا يخفى على أحد الدور الذي لعبه الإعلام المواطني الإلكتروني خلال الثورة التونسيّة. وهو دور لم يأت من عدم إنما جاء نتاجا لوعي شريحة من النخبة الشبابيّة بأهمّية وخطورة السلاح الإعلامي وسعيهم للتمكّن منه وتطويعه في نضالاتهم. وهو ما أثبتته أحداث ويوميّات الثورة، فقد كنّا نتواصل عبر الشبكة العنكبوتيّة رغم العوائق الأمنيّة، حيث حوصر النشطاء الصحفيّون وكنت من بينهم ومنعوا من التنقل إلى سيدي بوزيد، فلم يكن بدّ من اللجوء إلى الشبكة لتنسيق الجهود ولتجميع المعلومات ولنشرها. ولعب الفايسبوك خاصّة دورا رئيسيّا في العملية دون أن ننسى فضاء التدوين المصغّر “تويتر” والوسائط الأخرى. ولم تقف السلطة القائمة مكتوفة الأيدي إزاء هذا السلاح، فقد وعى النظام السابق بخطورة الإنترنت منذ البداية وكانت تونس سبّاقة في مضمار الحجب منذ دخلت الانترنت رحاب هذا البلد. وتحوّل الحجب خلال أحداث سيدي بوزيد إلى ما أسميته آنذاك سباق التناوب بين الرقيب والنشطاء، بين عمّار 404 وبين المدونين. وقد تحوّلت صفحتي على الفايسبوك إلى ما يشبه وكالة الأنباء حول أحداث سيدي بوزيد وبقية جهات الجمهورية، وكان الجميع يساهم في تأثيث هذه الصفحة. فكان كل من يريد نشر معطى أو فيديو أو صورة يقوم بذلك على صفحتي رغم كونها محجوبة. وكانت تلك الصفحة هي المعبر الذي أتصل من خلاله بالناس، وهي الخيط الرابط بيننا. كنا نتواصل ونتبادل المعطيات وننسّق التحرّكات، ونغطّيها. وتحوّلت الالكترونات الحرة إلى قذائف إلكترونية مسرّعة تضرب قلاع الصمت فتهزّها وتصدّعها، وأخذ الناس يتحدّثون بجرأة أكبر في كل مرة، ويتحدّون الرقيب الذاتي والخارجي، ويسخرون من عمّار 404 ومن منشئ عمّار.
– وما هي الوسائل التى كنتم تتوخونها لتجاوز جدران الحجب وعمار 404؟
كنا كلما حجبت مدونة نغيّر عناوينها بإضافة رقم يدلّ على عدد مرات الحجب، وكانت النسخة الجديدة تحجب زكنا نعيد الكرّة وهكذا، ونفس الأمر بالنسبة صفحات الفايسبوك، فنتفنّن في البحث عن وسائل لكسر الحجب ولتعريف الناس بها، ومنها استعمال البروكسي، وكلّما اعترضتنا عراقيل، كنا نعمل جاهدين لتجاوزها، وكلّما تجاوزناها تبرز لنا عراقيل جديدة.
– كيف كنت تتفاعل مع هذا الفضاء الافتراضي؟
كنت في كل مرة أستشعر أن هذا الفضاء تحوّل إلى فضاء بديل عن الحرية التي حرمنا منها، فيتنازعني هاجسان: الإيمان بأهمية الفضاء الافتراضي في معركة الحرية والكرامة والخوف أن يتحوّل إلى فضاء بديل وأن يتحوّل النضال إلى نضال افتراضيّ. ولحسن الحظّ فقد انتصر الهاجس الأول وانكسر الثاني حين نزل الناس إلى الشوارع وتحدّوا أجهزة القمع، وخطّوا دروس البطولة والشجاعة.
– كيف تعاطت السلط الأمنية معكم؟
مذ دخلت هذا المعترك، كنت واعيا أنني سأتعرّض إلى العديد من التضييقات، أقلّها الإيقاف والاعتقال. لم أعد أذكر عدد المرات التي أوقفت فيها أو اختطفت أو اعتدي عليّ بالعنف، أو التي صودرت فيها معدّاتي وأجهزتي.
بل لم أعد أذكر حجم التضييقات التي تعرّض لها المقرّبون منّي من عائلتي وأصدقائي ولا حتّى الثمن الذي دفعوه لمجرّد أنهم على علاقة بي. بقي أن هذا الثمن يعتبر ضئيلا مقابل الحرية. ولكني لازلت متألما لحجز الوحدة المركزية لحاسوبي بكل ما كانت تحتويه من مواد ارشيفية ووثائق وصور. وقد تم اعتقالي حينها ووقع تعنيفي بشكل خلف كدمات في وجهي وصودرت معدات عملي من آلات تسجيل وتصوير وغيرها. وتم التحقيق معي حول مدونتي وسئلت عن علاقتي بعدد من المدونين وبالهجوم على المواقع الرسمية التونسية.
– وماذا عن هذا الهجوم الذي قامت به مجموعة من القراصنة، وكيف تم هذا الهجوم؟
المجموعة التي هاجمت المواقع التونسية تدعى أنونيموز وهي مجموعة من القراصنة الدوليّين معظمهم من الشباب المؤمن بحقّ جميع الناس في الحصول على المعلومة أو ما نسمّيه بدمقرطة المعلومة. وقد تبنّت مجموعة أنونيموز الدفاع عن موقع ويكيليكس وصاحبه جوليان أسانج انطلاقا من هذا المبدأ فهاجمت المواقع التي رفضت إيواءه وشنّت حملات على كل من حاول خنق موقع ويكيليكس، وكان من بين من تعرّض لانتقام أنونيموس الحكومة التونسية التي حجبت موقع ويكيليكس وكل الروابط والصفحات التي تنشر وثائقه وشنّت عليه هجمة شرسة. هجوم أنونيموس يعتبر على المستوى التقني هجوما عالي المستوى، استعملت من خلاله أحدث تقنيات القرصنة، حيث هوجمت خوادم الواب التونسية بطريقة “دي دوس” التي تعطّل الخدمات قبل أن يقع حرقها واختراق بعضها.
أما عن ارتباط مدوّنين تونسيّين فقد حامت شبهات حول علاقة هذه المجموعة بحزب القراصنة ومعلوم أن بعض المدوّنين التونسيّين على علاقة بهذا الحزب ومن بينهم سليم عمامو وعزيز عمامي. وقد وقع إيقاف بعض المدوّنين للتحقيق معهم إثر هجمة أنونيموس ثمّ أطلق سراحهم في عهد الرئيس المخلوع وهو ما ينفي علاقتهم بهذه المجموعة التي تتوخّى كأغلب القراصنة السرية المطلقة في عملها، ومعلوم أن مجموعات القراصنة تعمل في مجموعات مغلقة ومتكتّمة وتحرص على إخفاء كل ما يمكن أن يدلّ على عناصرها، حتّى أن أفراد المجموعة الواحدة لا يعرفون بعضهم إلا من خلال أسماء مستعارة.
هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات
الوسومNew Media آعلام جديد عشرينات مدونات ميديا مدون