ربما يؤمن الكثيرون بأن الإبداع الحقيقي من الصعب أن يخرج من الأفكار العاطفية الكبيرة، ذلك أن التأثير العاطفي يغلب تأثير جماليات الإبداع عند المتلقي، ولكن عندما يكون هذا المبدع هو القاص المصري الشاب الرائع محمد علام فإننا لا بد أن نعيد النظر في المسلمة القديمة التي تحدثنا عنها.
يقدم علام في قصته “مارا تخبز الحياة عند نهر إيتاجي” إبداعا متميزا بحق، لم يغفل عن دوره الأصلي كأديب عندما تعرض لفكرة عاطفية جدا ألا وهي معاناة مريض السرطان، وبمنتهى الفطنة خرج علام من المأزق الذي يوقع الكثيرين في المباشرة والانهزام أمام التأثير العاطفي بأن أرجأ مفردة “السرطان” لتكون آخر مفردات قصته، وجعل بؤرة إبداعه في تفاصيل العلاقات الإنسانية للمريضة “مارا” التي لن نعرف أنها مريضة إلا في آخر جملة من النص.
وسلط علام الضوء على القلق البادي في تصرفات ونظرات وأحلام هذه المرأة بشكل شاعري وإنساني إلى أقصى مدى، يتسلل إلينا من التفاصيل النفسية الدقيقة والوصف الوافي غير المبالغ فيه ولا المخل، ليؤكد القاص على قدرته على أن يصنع جمالا من داخله يؤثر في قارئيه يغنيه عن الاتكاء على المؤثر العاطفي بذاته كأنصاف المبدعين الذين يستسهلون الكتابة، حتى إنه ينفي على لسان بطلته “مارا” كونها مصابة بالسرطان في الجملة الوحيدة التي جاء فيها ذكر المرض.
وصرح القاص الشاب محمد علام إلى “عشرينات” بأن له مجموعة قصصية تحت الطبع حاليا بعنوان “اعترافات أخيرة قبل أن أكذب”، وكشف أنها تتناول الهم الإنساني السحيق وموقعه بالكون ونسبته مقارنة بالكون.
وأوضح علام أن الإنسان هو ذلك الوحيد في هذا العالم، وأن هناك ثلاث مصطلحات تحكم وتقيد إنسان العصر الحديث هي “الوحدة، الخلوة، الاغتراب”، فالاغتراب هو تقوقع المرء على ذاته في وجود آخرين، وفي قلب مجتمع ما حوله، لكنه يفقد طرق التواصل الإنساني والاجتماعي، والخلوة هي تقوقع الإنسان على ذاته في خلوة بين نفسه فيكون متواصلا مع ذاته، يختلي بها وفي خلوته قد يكتشف الكثير والكثير.
وأضاف علام: ولكن إنسان هذا العصر يعاني من الوحدة التي هي فقدان التواصل مع الآخرين وفقدان التواصل مع الذات، والشعور بالاغتراب في ثنايا هذا الكون السحيق، وكما قال أنيس منصور: (من يحرص على حياته يتعذب بها ومن لا يحرص على حياته يعذبه الآخرون.. إن كل ما يقلقنا ويريحنا وما يخصنا يخص أحدا سوانا، هان الإنسان على نفسه فانكسرت كبرياؤه وانكمش ظله وانحط على الأرض لا يحرك ساكنا ولا يهز عقلا)، من هنا تولد القصة ومن رحم المعاناة تتجلى الحكاية..
***
“مارا تخبز الحياة عند نهر إيتاجي“
لا يقلق الظلامُ الكتبَ الرابضةَ على المكتب ولا الأوراقَ والأقلامَ، ولا جسدي المشربَ بسمرة مدفوعًا بنعومة داخل قميص النوم الأبيض الحريري. في الحقيقة إن الظلام ليس بإمكانه أن يقلق أحدًا على الإطلاق.
يقولون إنني أحس وأنا نائمة إذا ما دخل علي أحد، فتنكمش ابتسامتي، وينعقد حاجباي، ويقولون أحيانًا إنني ألفظ اسم الذي تجرأ واقتحم السكون فيرتعد ويتراجع على الفور.
وتتكاثر الأساطير حول مارا الجميلة ولا يسعني وأنا واقفة في شرفتي الصغيرة المواجهة لنهر إيتاجي، تحت الامتداد السماوي اللانهائي وشعاع الشمس خلف السحب البيضاء صعب الزيارة، إلا أن أقول: صباح الخير يا أصدقاء مارا، ألف الأفق كله داخل عيني بنظرة سريعة ولا أجد بدًا من أن أقول: تفضلوا على الرحب والسعة. فتسبقني رياح فقط.
قال لي دييجو ذات مرة ونحن في مطعم في وسط المدينة:
– لماذا تنامين بشكل غريب؟ تتشبثين بالمرتبة في عنف وتتصلب قدماك وتنفر عروقك ولا يسعني أن أرى منك سوى شعرك المتحلق حول وجهك الصغير.
لم أعرف بماذا أجيبه؟ تشبثت بلحظة صمت ورحت أداعب خصلة تموجت من شعري بين السبابة والوسطى.
– صديقي دييجو ، وأنت تنام هل تدري بأنك نائم؟ أنا لا أنام يا دييجو بل أعيش حياة متواصلة، لي بيت ومدينة على نهر الفردوس وحديقة أزهار كبيرة أرعاها كل صباح وأنا عائدة من عملي، لي حياة كاملة وأصدقاء عديدون.
ارتسمت على وجهه حينها علامات عدم الفهم والتفت أصابعه حول كأسه، يعانقنا الفراغ المنصوب بيني وبينه، توقفت إشفاقا ودفنت ابتسامتي في كأس الشمبانيا، بينما أفرغ هو كأسه مرة واحدة في حلقه وصعد إلى ساحة المطعم يصفق ويتلوى داخل أبواق الفالتز.
عندما يبدأ الليل في استعادة رقعته المسلوبة قهرًا، وتضيء السماء مصابيحها نجومًا تضوي خطوات اثنين تنحت الشاطئ، حينها تستيقظ المدينة كلها في أصابع عازف بيانو أو في أوتار التشيللو أو في نفخة ناي فرعوني. قد أكون منفرطة على سريري العاجي، ولا أستيقظ إلا عندما تخلد المدينة للسكون. يقول دييجو إنه ذات مرة وهو يتمشى على الشاطئ هو وخطيبته ماريانا، رأى أحد الأطفال يتسلل إلى بيتي، صعد سلالم الشرفة في مهارة ومد أصابعه إلى الباب الزجاجي المفضي إلى غرفتي مباشرة، لكنه رآني وأنا أتقلب في عنف، حتى انحسر ثوبي عن أجزاء من جسدي، فتراجع فجأة عن قراره وركض مذعورًا.. “لماذا لا تهتمين بإغلاق الستائر عندما تذهبين للنوم؟”.
عزيزتي أندريا عندما رأيتني آخر مرة ممدة على الشاطئ بقميص النوم الأبيض، حافية، كنت حينها قد تعرضت لغزو مفاجئ من شعاع قمري مرق بغتة على الباب الزجاجي، فأيقظ الكتب من غفوتها وراحت تزمجر والأوراق تتقافز وتتداخل الحروف والكلمات تتشابك، استيقظت مفزوعة أربت على الكتب، هدأتها، ودفأت الأوراق بوشاح أزرق ألفه حول رقبتي عندما أخلد للنوم. لاشيء في الغرفة غير الظلام، تنحيت جوار الستارة، لمحت طيف نور مرق على الشاطئ رأيته بعيني وأنا لا أكذب يا أندريا أنت تعلمين. جذبت المزلاج الزجاجي وهبطت الدرج وأخذت أعدو وأنا لا أرى شيئًا أتلفت يمينًا ويسارًا، كانت الخطوات تفقأ عيون الرمل، والهواء يغازل عيني ويبعثر الشعر.. في الهواء.
أندريا، لقد تبدد كل شيء حولي، وكان بي المستقر حافية على رمال ربوة تكاد تجثم فجأة على المكعبات الخشبية المتناثرة تكاد تطبق ظلمتها على كل الأضواء المتوهجة في المدينة تكاد تصد الموج عن المرور مرة أخرى من هنا. ورغما عني داهمني شعور بالبكاء، بردانة أنا، بردانة وكأنني لن أدفأ أبدًا، شبكت ذراعي حول كتفي وتمددت وأخذت الأفق داخلي.
السماء صافية تمامًا، صافية من الغيوم ومن النجوم ومن القمر. صديقاي دييجو وأندريا، تعلمان أن الصداقة شيء ثمين جدا، وكل ما نعيشه لا يساوي شيئا إذا لم نجد من يبادلونا الحب بطريقة ودودة، ولذلك كان فخرًا لأن يكون ابناي العزيزان أصدقاء لي. اليوم أقول لكما اعتنيا بالكتب جيدًا وبالأوراق، حافظا على كلماتي التي تركتها، ولا تدعوا سريري منتهكًا لأي شخص، أنا سأعود حتمًا.
أين سأذهب؟ وهل يسعني عالم غير هذا؟ لكنني فقط أشعر بالنعاس وأريد أن أكمل الحلم. نسيت أن أطلب منكم يا أولاد أن تبحثوا عن القمر وتعيدوه إلى أمه السماء، اطلبوا منه أن يسامحني إن كنت شغلت عنه ببعض الأحلام، فهو صديق جميل، ومارا لا تنسى أبدا أحبابها، ولذلك تركت لكم صورة التقطتها من هنا لإيتاجي وهي لا تزال عذراء في الطبيعة تقدم كل شيء على الكمال والاسترخاء، إنني لا أضمن محفوظات الذاكرة قد أكون بعيدة لفترة ولكنني أعلم أنني سأعود حتما، القبلات لكم جميعًا. فلا تصدقوا إشاعات الطبيب، ولا تصدقوا أي شخص يقول غير أن مارا تحب الحياة، فمارا ليست مريضة بالسرطان.
هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات
الوسوماعترافات أخيرة قبل أن أكذب قصة مارا تخبز الحياة عند نهر إيتاجي محمد علام