لعلّ قصة “الذكرى” كلّها ليست أكثر من حيلة للزّمن يجبرنا من خلالها – أو ربّما يساعدُنا – على ترشيد الذاكرة. الذكرى قد تكون مؤامرة على الذاكرة، أو ربما تواطؤ خفيٌّ معها، وكثيراً ما تكون الذكرى طريقة أنيقة للنسيان.
كتفا كلِّ شاعر كبير تُغريانِ دائما بالقفز، سواءٌ كان قفزَ طِفلٍ مُحِبٍّ يلهو، أو قفزَ قامةَ قصيرةٍ تبحث عن رؤيةٍ أوسع، أو قفزَ ظِلٍّ ثقيلٍ يبحث عن مجرّد اقتران في الأسماء يعوِّض افتراق المقادير. وما يهوّن قلقي أنّ كتفيّ أمل حادّان صقيلان كسكّين، تُحاكي شفرتُه “الحقيقة”، وتنعكِس على نصله “الأوجه الغائبة”، وكتِفانِ كهذين سيُفضي كلُّ وقوفٍ عليهما إلى انكشاف مُخجِل أو شهادةٍ جليلة، ربّما كان في النّصل مُتّسَعٌ يا أمل، ربّما.
الأفق الذي التقيت فيه بأمل دنقل كان مُشبَعاً بأثقلَ ما فيه وفيّ، كان اصطداماً أكثر منه التقاء، كان يشبُهُ التوافق القدري بين لحظة احتباس الدموع الأكثف والعثور على الحضن الأرحب. وكان يشبه مرور السؤال الأكبر بورقة الإجابة الأفسح. وكان انفجار الجرح المنضغط بدمائه في وجه ضِماده الأحنّ. كان أمل أفق الإمكان الذي انبلج فجأة.
“موسيقى أمل دنقل بناءٌ حجري، مادّته الخام حجارة كأقسى ما يكون الحجر”
موسيقى أمل بناءٌ حجري. مادّته الخام حجارة كأقسى ما يكون الحجر، وكأشدّ حالاته شَوَهانا. حَجَرٌ وقع في يدَي بنّاءٍ ماهر قبل أن يتهذّب وتُسوّى نتوءاتُه وتُحَفَّ بروزاتُه. وفوق ذلك، تعمَّد البنّاء أن يضعَ هنا حجراً بارزاً، وأن يدعَ هنا ثغرةً غيرَ منتَظَمة في السور، ويتركَ هذه الواجهة غير مكتمِلة، ويجعلَ هذا الحائطَ أسمك وذاك بلا نافذة، ويجعل تلكَ الناحية كلّها نافذة.
رغم ذلك كلِّه، يخرجُ البِناء تحفة نادرة، لا يملُّ مطالِعُها من الدهشة إزاء جمالِها الخشِن، موسيقى أمل عَرَبةٌ محشوَّةٌ عجلاتُها بالنتوءات، تَرقُصُ بقدرِ ما تضطرب، تمضي بقدرِ ما تهوي.
شعر أمل مزيجٌ من حَدَّة الجمال وجمالِ الحِدّة. نَصلٌ في منتهى الرهافة والحسم. رَقصٌ بارِعٌ على كومة مسامير. أمل هو جوابُنا وملاذنا كلما نَزَعَ بنا الشِّعرُ أو بعضُ أهلِه إلى التبخّر والتلاشي في فضاءات الجمال العدمي الهارب من نفسه. وأمل هو جوابُنا وملاذنا كلما نزعت بنا السياسة أو بعضُ أهلِها إلى الذوبانِ في مستنقعاتِ اليوميّ المسجونِ في نفسِه.
شِعرُ أمل فرصة لالتقاء الشّعرِ بحدَّيه المتنافرَين؛ الوعي والحدس، المهارة والبِكارة، الفعل والانفعال، الذكاء والبداهة، التمكّن والتفلّت.
أمل هو رمادُنا الممكن بين بياضِ يشِفُّ حتى لا يرى نفسَه، وسوادٍ يَحلُكُ حتى لا يرى سواه. بين نارٍ تتفلّت من أيدينا، وفحمٍ يُمسِك بها. أمل أفق إمكاننا الشّعري حين نريدُ أن نكون نحن.
همام يحيى – العربي الجديد
هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات