سأدوس في قدمي
دعاة “الفن” والمتحذلقين
وعجائز الشعراء والمستوِّلين
وأحطم الأشعار فوق رؤوسهم
فدم الحياة
يجري بأعراقي
وإني لن أخون
قضية الإنسان: إني لن أخون
فلتذهبي يا ربَّة الشعر الكذوب إلى الجحيم
فأنا هنا أستلم الأشعار من حبي العظيم”
عبد الوهاب البياتي
***
بعض الأسئلة تحتقب في داخلها ختم ردتها وهزيمتها، ولا تريم جواباً، وتتسوَّر في حصن الإشكال، كي ترد كل جواب محتمل.
ومن هذه الأسئلة سؤال عالق حول وظيفة الكتابة بتلويناتها المختلفة – وعلى رأسها الشعر. وتأتي الإجابة عن هذا السؤال متضادة، ففريق يرى أن معنى الكتابة هو وظيفتها، وآخرون يقولون: إن معنى الوظيفة خارج معنى الكتابة، فوظيفة الكتابة الوحيدة هي تحققها كفعل مستقل لا يذوب في غيره؛ لأن ذلك يلغي ما هو جوهري، ويستلب مقامها الخاص.
ويُحِيلنا هذا التباين في المواقف إلى سؤال آخر هو: ماذا نتوخى من إحداث العمل الإبداعي في ذواتنا؟ يجيب الشاعر الحداثي (أدونيس) عن ذلك بالقول: “ليس للقصيدة، للمسرحية، للوحة فعل مباشر، لكن لهذه جميعاً قدرة التغيير.. بشكل أو بآخر تقدم صورة جديدة أفضل للعالم، أي أنها تُعيد خلقه؛ وإذْ نعيد خلقَه نُغَيِّره” (فاتحة لنهاية القرن 105).
يرى أدونيس أن العمل الإبداعي يكمن فعله في اجتراح عالم أفضل وتغيير السائد؛ إذ إن الإبداع يضمر في مكارمه بذرة التغيير، ولكن أدواته هي التي تحفظ له حضوره ومفرادته.
ويذهب (ممدوح عدوان) إلى: “أن الشاعر منتمٍ إلى إحدى الطائفتين: إما أنه طامح إلى تغيير العالم، وإما أنه مساهم في تكريسه، ولا مجال للحديث المنافق ذاته الذي يسعى إلى تكريس موقف سياسي واقتصادي واجتماعي للشعر يريد جعله مادة تسلية وتثبت للعالم الصورة القائمة”.
(لا بد من التفاصيل 10).
إذا ارتضى المبدع عامة – والشاعر خاصة – بدور المغيِّر الذي يخاطب المنطقة المنفعلة في الإنسان ينبغي أن يكون رائداً ومستشرفاً، وألا يقنع بدور الحاكي أو بدور الصدى.
وحين يختار الأديب لنفسه هذا المكان فقد اختار لنفسه وظيفة أو سلطة لا تتنافى ولا تتعارض مع سلطة الأيديولوجية.
يقدم محمود درويش تصوره لهذا الإشكال:
“أن يكون الشاعر خادماً لقضية سياسية محددة، فهذا يقتل الشعر؛ لذلك أنا ضد تسييس الشعر، ولكن أنا مع انخراط الشعر في الواقع الذي يعبِّر عنه، وبما أن سمة هذا الواقع سياسية فلا بد أن يتعامل مع هذه القضية بأدواته هو، وبطريقته هو وباستقلاله التعبيري عن التعبير المباشر، وبالتالي فإن الدعوة إلى تسييس الشعر دعوة خاطئة؛ لأن معناها في الشرط العربي هو الابتعاد عن الواقع” (مجلة الحوادث ع 1522).
إن ذات الشاعر ليست ذاتاً منبتة منفردة، إنما هي تختزل مجموع الذوات. ولا يقتضي القول بوظيفة الإبداع بتر معناه، واجتثاث كيانه المميز، إنما يعني تحديده الموضوعي كعلاقة اجتماعية تؤثر على غيرها من العلاقات الاجتماعية ويتأثر بها.
أما الدعوة إلى قطع كامل بين الإبداع والهموم الجمعية، فإنها لا تترجم موضوعية العلاقات بقدر ما تستبدلها بوهم ذاتي، وتأسيس في الفراغ.
وسيظل المبدع مبدعاً ما دام يرى برؤيته، ولن يتحول إلى دجَّال أو منافق إلا إذا جعل أرضه قنطرة لمآرب خارج الشرط الإبداعي، أو أهدى صوته بوقاً للآخرين.
فمن أجل أن يظل الإبداع مبرأً من الأهواء، عليه أن يعلن انتماءه إلى الإنسان لا إلى الأشخاص، وإلى الأفكار لا إلى المؤسسات.. وبذلك وحده يستعلي على التقسيمات الهشة والأفكار الكسولة، ويحفظ للفن وقاره.
عيسى برهومة
هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات
الوسومالأفكار الشعر العلاقات الفن الكتابة المبدع