بين حيرة الأسئلة وحياة البسطاء

بين حيرة الأسئلة وحياة البسطاء

بين حيرة الأسئلة وحياة البسطاء قضيت ليلتي, لم تكن كباقي الليالي, وبالطبع لم يسبق وأن كان هناك ليلتين كبعضهما.

لقد كان ذلك المساء مختلفا ببؤسه وجمعه للتناقضات, ولا أنكر أنه خُتم بالجمال, وأنه ساعدني في فك شيء من الرموز والمشكلات!

 بلغ بي البؤس مبلغه, ودارت بي الدنيا بكل مصائبها وشرورها, تشكّل لي العالم عبر مجموعة من العقد والتعقيدات . .

 لم يكن ذلك فحسب, لقد تطور الأمر إلى “لماذا” .. لماذا؟ ذلك السؤال الذي يجمع بداخله الجمال/القبح, الخير/الشر, المركز/اللامركز, الخلاء/الملاء, الظاهر/الباطن, المنطق/اللامنطق, الحياة/الموت, الجلاء/الفناء, الصباح/المساء, النور/الظلام, الباري/الصدفة,… الخ

بين حيرة الأسئلة شعرت ببؤس حقيقي .. فكرت في الخروج من عالم المعرفة والفكر والثقافة إلى حياة البسطاء, حياة أولئك البشر الذين منحوا عقولهم لرجالات الدين وكبراءهم لينوبوا عنهم في التفكير, وعاشوا كحيوانات تبحث عن رزقها وأكلها وهكذا تعيش بقية حياتها, وأثناء ذلك وصلتني رسالة جوال من شخص مجهول – اكتشفت بعد رسالة أخرى أنه معلمي الشيخ عبدالرحمن الحكمي الفيفي – تحوي قصيدة يقول فيها:

 طلق الدنيا ثلاثا وتزوج أمها عنها بديلا

ثم حاذر أن تميلا

ثم أولدها اليتامى والضحايا والبلايا والفيافي والسهولا

والصحاري والحقولا

ثم أولدها حياة وفناء وحروبا وسلاما وذهولا وجنونا وعقولا

 ثم طلقها ثلاثا وتزوج أمها الكبرى العذولا

 ثم أولدها صفاء ووحولا

 وجنانا وجحيما وترابا وكروما ونخيل

 وحضارات وأقلاما تعاديها وأقزاما تباريها فتمحوها طلولا

 والبطولات جميعا والتواريخ فصولا

 وقبورا وقصورا وتوابيت وكهانا ورهبانا ومجانا وعميانا وحولا

 وكؤوسا وطبولا

  ثم طلق هذه الأخرى وخادن أمها كي لا تزولا

هكذا حتى تعم الكل عرضا ثم طولا

 ربما تصبح أخراهن أولى

 ثم تدري أنها خائنة الخدن فروعا وأصولا

ثم تدري أخيرا أنك المخدوع جيلا ثم جيلا

أنك الخدن الذي أولدها شرا وخيرا وسمادير وموروثا وتاريخا طويلا

ومقادير تسميها فضولا

وعذابات تسميها بأدنى كلفة ظلا ظليلا

ثم تدري أنك الواهب للأشياء مقدارا جزيلا وكثيرا وقليلا

أنت من قرر يوما أن تقولا

أنت من سميت من شئت رؤوسا أنت من سميت من شئت ذيولا

وتحوتا ووعولا

 فقبيح ما ترى أنت قبيحا وجميل ما ترى أنت جميلا

مستحيل ما تراه مستحيلا

أنت من صير للمحكمة الكبرى قضاة وشهودا وعدولا

أنت من صاغ قضاياها وأعطاها القبولا

أنت من أعطى القوانين جلالا والكراسي مثولا

أنت من ساق إليها أبرياء وجناة وكبولا

أنت من مكنها حتى تصولا

أنت من أضفى عليها من تضاريس القداسات سيولا

أنت من أعطيتها جورا وقد سميته العدل الجليلا

وتماديت فأرسلت من الجور إلى الجور رسولا وكتابا ودليلا

وتوعدت ومنيت وسميت قوانينك غولا

ثم تبقى لست تدري أبدا أيكما الدنيا وقد تؤثر أن تبقى جهولا

ونبيلا؟

حينها تعلم أن الوهم لما قدم العالم سموه: عقولا !

قرأتها مرات ومرات, أدهشتني .. قتلتني .. زادتني بؤسا وحيرة, أرسلت له حالي, وشرحت له بؤس مقامي ومقالي, فرد بقوله:

“الأسئلة المبصرة لا تقابل بالانسحاب إن لم تجد إلا أجوبة عمياء. من الجيد أن نتركها تبصر النور ولا نقتلها بأجوبة مقلقة.”

إننا إن فعلنا ذلك عشنا لحظة التوتر المطمئن الذي هو مُركّب من موضوع الطمأنينة ونقيضه القلق, وهنا نكون عرفنا المشكلة وحولنا العدم وجودا والموت حياة والخلاء ملاء.

 إن اخترنا الانسحاب من مغامرة هذه الأسئلة إلى حياة البسطاء نكون قد قضينا على مستقبلنا, وبدل أن نصبح الإسكندر صرنا خادم داريوس الذي آثر حياة الجبل.

الأول يا صاحبي عاش الفاتح العظيم والثاني مازال وهما. فحاول أن تدفع الأسئلة بأسئلة وأن تبعث منها حياتك القادمة.”

ومن ثم أرسل أخرى وقال: “وحتى أولئك البسطاء الذين ذكرتهم, ما الذي يدريك أنهم أحسن حالا منك ؟

 إن حياتهم مملوءة بالمنغصات والمكدرات, ألا يكفي تنغيصا عليهم غير الفقر والحاجة والجهل أن هؤلاء المتعالمين, المدعين أنهم وجدوا جواب كل شيء, والمتكبرين على المعلومة, ألا يكفي أنهم يسيطرون على حياة أولئك البسطاء المساكين ويسيرونها كيفما شاءوا؟

ألا يكفي ذلك يا صاحبي تنغيصا للعيش ونفيا للسرور واقتلاعا له من جذوره؟

هل تعلم أن هذا السبب وحده كاف عندي لاعتقاد أن هؤلاء البسطاء -الذين ترغب أن تكون أحدهم- في الجنة بدون حساب؛ لأنهم صبروا على هذه المحنة بأولئك المتعالمين المستوحشين من المعرفة أو تماهوا مع محنتهم بهم؟

يجب أن نقدر قيمة ما وصلنا إليه, وأن نستخصب هذه الفرصة التي جاءتنا ونحول الصعب سهلا.

وغدا سيكون مولودا مباركا منتجا ولده ثبر هذا اليوم. الحرية من ربقة وحوش المعرفة لا يعادلها ثمن, فلا ينبغي أن نخسرها ولنجتهد.

وقد كان مولود الغد حينها هذه المقالة التي أفتتحت بها مرحلة جديدة لنفسي, داعيا فيها الجميع في أن نتشارك “لماذا” ولنفكر ونفكك كل شيء, ولنتيقن أن حيرة الأسئلة أقل بؤسا من حياة البسطاء.

عيسى سلمان

هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات