سارة . . وقصة الفلسفة

سارة . . وقصة الفلسفة

أول فيلسوفة على وجه الأرض كانت تدعى سارة… فتاة شابة تستمتع بكل ما حولها من جمال طبيعي.. خيالها ليس له حدود فلم تفرض عليه بعد تلك الأطر التي تحدد تفكير الإنسان … فطرة نقية بدائية .. مع سارة نبدأ قصة الفلسفة…

ما أجمل فصل الربيع ! جلست سارة في غابتها الممتدة على غصن شجرة وقد غمرتها سعادة داخلية لا تعرف منبعها.. أو لربما تعرف.. إنه ذلك الشعور الذي ينتابها عندما ترى الأشجار تكتسي خضارا والارض تمتلئ أزهارا والحيوانات تخرج من أوكارها وبيوتها ليكون لها نصيب من تلك الحلة الخضراء في اللعب والغذاء. إنه ذلك الكون الذي يسير وفق نظام ما يجعله مرتبا ‘ منسقا تسيره قوى محركة غامضة …

لغضن سارة فائدة كبرى.. يختلف عن بقية الأماكن في الغابة.. فارتفاع الغصن عن سطح الآرض يمكنها من رؤية الغابة بأكملها‘ ليس فقط أجزاء مبتورة تنقص الصورة الكاملة جمالها وروعتها.. تشعر كأنها طائر طليق حر التحليق.. وهو شعور نابع من أمنيتها الكبرى الكامنة في التغلب على الجاذبية الأرضية والتعرف على ما حولها من إبداع ليس له نظير..

تجلس على الغصن وتتأمل  …. تمضي الأيام والساعات والأسابيع والأشهر.. تشاهد الطبيعة وهي تغير ألوانها مع تغير الفصول.الأشجار تتعرى وتخلع حلتها الخضراء شيئا فشيئا… والأعشاب تيبس وماء الجدول بدأ يخبو خريره وكأن المشهد بدأ يعكس نفسه: من منظر أخضر بهي إلى بني كئيب. هنا تولد لدى سارة أول سؤال فلسفي متعلق بهذه الطبيعة وبهذا الكون: لماذا يحدث هذا التغير؟ كيف تزهر الأزهار ثم تذبل؟ كيف تتحول خضرة بهية إلى أشجار جرداء؟ ما الذي يجعل الأوراق تتساقط والحيوانات تختبئ في أوكارها؟

شعرت سارة وكأن كل هذه الأسئلة لا بد أن تحصل على إجابتها إذا بقيت تتأمل.. فالطبيعة من حولها بقدر ما هي تحمل أسرارا وتطرح اسئلة لا بد وانها حاملة في جعبتها اجابات .. ولكن الطبيعة بقيت محتفظة بأسرارها عصية على فهم سارة …فهمت سارة أن الطبيعة لا ترغب في بسط إجاباتها بهذه السرعة ولكنها تطلب ممن يسبر أغوارها مزيدا من إعمال العقل. ظلت سارة تحدق في الأشجار الجرداء وفي المياة الداكنة والأوراق البنية الملقاة على الأرض وظلت تفكر وتفكر وتفكر ولكن مهما حاولت لم تشأ الطبيعة أن تمدها بتلك الأجوبة… شعرت سارة بالبرد وارادت أن تجد لها مخبئا فقد بدأت الريح تهب‘ وعندما تهب الريح في الغابة تكون هبتها قوية محركة للأغصان والحصى وسببا للبرد الشديد!

وفجأة قفزت سارة فرحة:  الريح نعم هذا هو الحل.. الريح هي السبب في حدوث هذه التغييرات فهو يحرك الأشجار وبالتالي تسقط اوراقها وما أن تسقط على الأرض حتى تفقد اتصالها بالشجرة الأم فتقثد خضرتها.. ولكن ألا يمكن أن يكون للماء دور في هذه اللعبة أيضا؟ أليس المطر يتساقط فتنمو الأزهار وتنتعش المراعي؟ أليس المطر هو الذي يمنع تلك الجداول من الجفاف ويتسبب في تغيير ألوان الطبيعة مع تغير فصول السنة؟ وتمادت سارة في التفكير وخطر لها هذا السؤال بعد أن كادت تقتنع شبه اقتناع بأن الماء هو القوى المحركة التي تقف وراء تسيير هذا الكون

ولكن سؤالا مشاكسا لم يشأ لها أن تشعر بالراحة بسبب ما توصلت إليه من نتائج: ما هو الماء في النهاية؟ أليس الماء هو مجموعة من ذرات الهواء لاقت سطحا باردا فتكثفت لتهطل على شكل أمطار؟ ها قد عدنا للريح فالحل الأقرب اذن أن يكون هو السبب في هذه التغييرات… بدأ المطر يهطل وتحول بعد حين إلى عاصفة رعدية قوية.. وكانت سارة قد لجأت إلى كهف قريب يحميها من العاصفة فقد كانت تخاف العواصف لأنها رأت ذات مرة صاعقة تضرب الأرض وتضرم النار في الغابة! النار! النار قوية تحرق الأشجار وتخاف منها الحيوانات وهي بلا شك قوة تغير من شكل الطبيعة ولكن ما الذي يجعل النار نارا؟ والمطر مطرا؟ والهواء هواء؟ ألا يمكن أن يكون المطر نارا فيحرق بدلا من أن يطفئ النار؟

أدركت سارة أن عليها أن تجد إجابة عما هو الكون في الأساس قبل أن تحاول معرفة من يسيره.. وبعد تفكير طويل اهتدت سارة إلى تلك النتيجة:

لا بد أن الأشياء في شكلها النهائي الذي نراه هي عبارة عن أجسام دقيقة تتصل مع بعضها على نسق معين فتكون هذه المادة أو تلك .. أصغر تلك الأجسام التي تتكون منها المواد لا يمكن أن تنقسم إلى أجزاء أصغر منها ..  هناك أجسام صغيرة تتكون منها الأشياء المختلفة التي نراها وهي التي تعطيها صفاتها المميزة ولا بد أن هذه الأجسام غير قابلة للتحول إلى مادة أخرى في حد ذاتها.أي أنها أصغر جزء تتكون منه المواد .. هذه الأجسام الصغيرة التي توصلت إليها سارة هي التي أطلق عليها العلماء اسم “الذرة”. وضعت سارة يدها عللى البدايات الأولى لعلم الفيزياء “علم المادة” عن طريق التفكير في الكون من حولها دون أن تبرح قدماها غابتها الصغيرة..

إذن فالأشياء جميعا مكونة من “ذرات” دقيقة تعطي للمواد شكلها النهائي .. ولكن مرة أخرى فرضت فكرة “المسير” نفسها على عقل سارة. من الذي يجمع هذه الذرات مع بعضها لتنتج عنها تلك الأشياء الجميلة من أزهار ونار وعشب وماء؟ هل يمكن أن تتجمع عن طريق الصدفة؟ لو افترضنا ذلك فهذا يعني أننا نحتاج إلى ملايين الصدف حتى يحدث هذا التجمع البهي بهذا التنسيق البالغ في الدقة! ثم إن كانت الصدفة هي التي تجمع ذرات المواد فهل يعني هذا ان النار تكون في وقت ما نارا ثم تكون ماء إذا ما شاءت الصدفة تغيير ما جمعته؟ كلا إن هذا التفسير لم يلق قبولا لدى الفتاة التي لم تستسلم لحالة النعاس التي انتابتها فجأة.. فهي لا تستطيع النوم طالما ظل عقلها يعمل بتلك اليقظة. شحدت سارة أفكارها مرة أخرى وحاولت أن تنظم ما توصلت إليه لتصل إلى نتيجة مرضية.. وكلما فكرت كلما أيقنت بحتمية وجود قوة مبدعة هي بمثابة المحرك الأول لهذا الكون.. وهكذا تمكنت سارة من الولوج إلى فضاء ما وراء المادة أو ما يسمى “بالميتافيزيقيا” .. من خلال رحلة تفكيرها حققت سارة أول موضوعين كبار في علم الفلسفة: المادة وما وراء المادة أو الدين والعلم!

شعرت سارة بالرضى وتمكنت أخيرا من الاستسلام للنوم.. لكنه كان نوما مضطربا .. فقد رأت فيه سارة كوابيس مخيفة هزت داخلها ثم تغير الحلم ليصبح جميلا ضحكت بسببه في نومها.. تقلبت سارة في فراشها واستيقظت فجأة وهي تتصبب عرقا ولا تزال ابتسامتها مرتمسة على وجهها الناعس. بقيت سارة مستلقية في فراشها عاجزة لبضع لحظات أن تعرف أين هي وما الذي حصل لها. أين ذهبت تلك الصور التي رأتها في منامها؟ لقد استيقظت في ذلك العالم نفسه الذي تركته ليلة أمس لتدخل في رحاب عالم الأحلام… كان كل شئ في منامها يبدو حقيقيا.. الحقيقة! مرة أخرى رن في ذهن سارة ذلك الجرس الذي كثيرا ما تسمعه عندما تخطر لها فكرة.. ما هي الحقيقة؟ هل هو الحلم الذي رأته؟ أم العالم الذي تراه وهي صاحية؟ ثم ماذا هو الصحو والنوم؟ ألا يمكن أن يكون الصحو نوما والنوم صحوا؟ كيف يمكنها أن تعرف الحقيقة من الوهم؟ هل عقلها قادر على المعرفة؟

لم تكن تلك الأسئلة التي شغلت بال سارة سوى دخولا لها إلى عالم علم ثالث من علوم الفلسفة وهو ما يعرف حاليا بعلم ” الابستمولوجي” أو “نظرية المعرفة”… وذلك دون أن تغادر بعد غابتها البدائية!

هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات