ضجيج .. قصة قصيرة لـ همام يحيى

ضجيج .. قصة قصيرة لـ همام يحيى

شرح الأصدقاء مشكلتهم ، وبدت له حقيقية .. بإيجاز ، ثمة فتاة رائعة الجمال ، لكنها لا تدرك ذلك ، وهذا يزعجهم للغاية ..

ثمة سؤال مشروع هنا : كيف عرفوا أنها لا تدرك ذلك؟
الجواب بسيط .. بإمكاننا القول إنه نوع من المعرفة الحدسية الصادقة ، حيث بإمكان الرجل أن يحدد بسهولة إلى أي مدى تدرك الجميلة أنها جميلة ..

سأحاول توضيح ذلك .. ثمة مكونان أساسيان يرصدهما الرجل في المرأة حتى دون أن يتعمد ذلك : الجمال ، والضجيج المصاحب له .. كل امرأة تصدر ضجيجا ما حول جمالها ، بوسائل مختلفة بالغة الطرافة والتنوع .. ما يفعله الرجل هو مقارنة جمال الأنثى بالضجيج الذي تثيره حول جمالها ، ويستفزه كثيرا أن يجد تفاوتا بين الجمال والضجيج..

مثلا .. تثير بعض النساء ضجيجا يفوق مستوى جمالها .. يرصد الرجل ذلك بمرح، فهذه المرأة مادة رائعة للمشاكسة والصخب .. هذا الضجيج العالي يعني توفير مساحة مفتوحة للعب خارج منطقة الخطر .. لا شك أن جرّ الخصم إلى منطقة اللعب الخطر يظل هو الهدف النهائي ، لكن هذا الضجيج العالي يعني أن أمامنا متسعا من الوقت والمساحة ، ولنلعب قليلا بتواطؤ مشترك ، فقليل من المرح لا يضرّ .. لا أحد يعلم ما سيحدث ، ولا داعي لمعرفة ذلك أصلا .. هذا النوع من النساء يواتي الشعراء المتسكعين ، والأزواج غير القانعين تماما ، وأصنافا أخرى ..

لكن ثمة نساء يثرن ضجيجا أقل من جمالهن ، وامرأة من هذا النوع ، إذا كانت رائعة الجمال خصوصا ، تحتاج مقاربة مغايرة تماما .. مقاربة مشوبة بالحذر المتأمل ، بل بالخوف ..

أول ما تثيره امرأة من هذا النوع لدى الرجل ، شعورُ غامر بالسخط .. ينبغي أن تثير ضجيجا أكبر من جمالها أو مكافئا له على الأقل ، فهذا شرط ضروري للبدء .. أما إن كان الضجيج أقل ، فهذا مؤذ جدا .. لماذا؟ لأنه قد يكون إعلانا عن جمال مكتف بذاته ولا يحتاج ضجيجا حوله ، أي هو جمال مغرور .. أو قد يكون إخلاصا لحبيب ما ، يستأثر هو بالضجيج كله، ولا يبقي لغيره إلا الصمت الجليدي القاتل .. ولذا حين يسأل رجل امرأة من هذا النوع : هل هناك رجل ما؟ فهو في الحقيقة يسألها : أين ضجيجك؟ هل تخبئينه لرجل ما؟ .. ويمكننا هنا أن نستنتج استنتاجا صحيحا ، مفاده أن امرأة عالية الضجيج لا يمكن أن تكون مرتبطة ، وحين لا يشعر رجل بالحاجة لطرح السؤال فهو يقول للمرأة ضمنا : ضجيجك عال إلى درجة تؤكد أنك غير مرتبطة ..

لنعد إلى احتمالات خفوت ضجيج امرأة جميلة جدا .. فبالإضافة إلى الجمال المغرور، والضجيج المخبأ لشخص ما ، ثمة احتمال بالغ الخطورة : أن يكون لها ارتباط سابق برجل، انتهى إلى فشل ما .. أي بعبارة أدق ، لقد انسكب ضجيجها مرة ، بل انفجر بركان ضجيجي ذات حب ، ثم تبين أن التوقيت خاطئ .. هنا ينكتم بركان الضجيج ، وتتوقف الساعات ، يحتبس العمر في لحظة ، ويحدث انضغاط روحي شبيه بابتلاع نجم شائخ في ثقب أسود ..

وماذا بعد؟ يتراكم الضجيج ويتفاعل ، ويصبح إخراجه مغامرة شديدة الخطورة ، فمن ناحية ، هناك الرغبة الجامحة في إخراج الضجيج بوصفه نوعا من استمتاع المرأة الذاتي بجمالها ، فضلا عن قدراته الإغوائية البهيجة ، ومن ناحية أخرى هناك الألم المترسب من انفجار سابق ما تزال آلامه مبرحة ..

لنعد إلى صاحبنا .. وضع أصدقاؤه المشكلة أمامه إذن .. ثمة امرأة بالغة الجمال لكنها لا تدرك ذلك .. ولأنه يدرك مدى الإزعاج الذي تسببه امرأة كهذه ، قَبِل الاضطلاع بالمهمة .. سيخرج ضجيجها الكامن .. سيجعلها تدرك كم هي جميلة ..

ولكن لماذا يفعل ذلك؟
لا .. هو لا يريد الفتاة لنفسه .. سيقوم بذلك بلا مقابل .. معروفا إنسانيا عاما .. كل امرأة جميلة يجب أن تخرج ضجيجها .. لا بد من تفكيك هذه الألغام ولو كانت في صحراء نائية لن يطأها أحد ..

لكن ما دام سيخرج ضجيجها ، فلماذا لا يحظى هو بالضجيج وبها؟
صاحبنا توصل بعد تأمل طويل وتجربة فاحصة إلى أن كل علاقة ، إذا ما نظفناها من الزوائد والإضافات والقشور، سترتدّ إلى عنصرين أساسيين : العلاقة الجسدية ، والكلام ..

ولأنه – ودون استعراض لكيفية تشكل هذه القناعة- يؤمن أن العلاقة الجسدية لا تختلف من علاقة لأخرى ، فما يميز علاقة عن أخرى هو الكلام .. الكلام هو ما يمنح كل علاقة طابعها المتفرّد .. وهو يجعل العلاقة أكثر تميزا وثراء كلما كان أكثر سخافة ..

نعم .. تصبح العلاقة أخصب وأغنى وأكثر خصوصية كلما استطاعت خلق كلام أسخف .. حتى المثقف والمثقفة حين يناقشان الأسطورة في شعر بدر شاكر السياب أو مفهوم رأس المال الرمزي عند بيير بورديو، فهما ينتظران بشغف ودأب اللحظة التي يمكن فيها أن يقول لها ” يا هبلة” وتقول له “ما أزنخك” .. العلاقة التي تعجز عن صنع سخافاتها الكلامية الخاصة ستفشل ..

وهو، بأثر من ثقافوية مفرطة لا يسيطر عليها ، لا يقوى على الكلام السخيف ، ولأن العنصرين لا يشغلانه ، فلا معنى للحصول على الفتاة .. لنفكك اللغم فقط ..

سيضطلع بالمهمة إذن .. سيخرج ضجيج الفتاة ..

كتب في ورقة صغيرة : هل تعلمين لماذا سميت الغابة هكذا؟ لأنها مجهولة إلى درجة الغيب .. لهذا نشبّه الشَّعر بالغابة .. بالنسبة لي ، شعرك ليس غابة .. إنه غيابة .. هل سمعتِ عن “غيابة الجُبّ”؟

بدا الكلام ثقافيا أكثر من اللازم ، لكنه يعلم أن المرأة تحبّ المثقف وإن لم تكن مثقفة .. وطالما أن الوصول إلى السخافات ليس مطلوبا ، فالنص بدا مناسبا كبداية ..

أخذ الورقة ، وانطلق إلى حيث تركن سيارتها الخمرية – هي هكذا بالفعل ولم أفتعل اللون لغايات قصصية- ووضع الورقة تحت مسّاحة الزجاج الأمامية ، وكَمَنَ قريبا ليرصد ردة الفعل ..

لاحظت الورقة .. فتحتها بفضول .. قرأتها مرتين .. شعرت بتنميل في شَعرها ، وتخيلته كومةَ أفاعٍ في حركة زاحفة في كل اتجاه ، وتشكلت بضع قطرات من العَرَق انحدرت ببطء في مسارب مجهولة خلال شعرها .. شعرت بانحدار القطرات كأنها جداول هادئة يرقص فيها سمك ملوّن ..

في اليوم التالي كتب : لا أدري كيف لا تجرفك رياح الزوبعة ، وكيف لا تسيرين ملتفة بسرعة مثل تورنيدو .. هاتان الدوامتان المزروعتان في صدرك .. ألا تلفحانك بنفحهما الهادر؟ نهدك ليس إلا شهوة تدور .. كدوامة هوائية غاضبة ، تتسارع باستمرار من أسفل إلى أعلى حتى تبلغ ذروتها في نقطة .. إنهما دوامتان تدوران أسرع من قدرتنا على الملاحظة ..

بحركة لا إرادية ، وضعت يدها على نهدها الأيسر ، وتنهدت بعمق .. شعرت أنها دائخة ، وتمنت لو تدور بلا انقطاع .. استيقظت تلك الليلة من نومها فزعة .. حلمت أن نهديها أصبحا مروحيتين ، وأنهما دارا بعنف حتى حملاها إلى أراض بعيدة تطير فيها النساء بمروحيتين في الصدر ، وتتشكل أشجارها من دوامات تدور ثم تتجمد ..

في اليوم الثالث كتب : هل وقفتِ يوما أمام مرآة طويلة؟ هل سبق ورأيت جسدك كاملا؟ افعلي ذلك ..

بدا وكأنه انتقل إلى مرحلة جعلها تفكك نفسها ذاتيا .. حين وقفت أمام المرآة ، شعرت أن هناك كما لانهائيا من التفاصيل تتمدد في كل اتجاه .. أحست أن كل ركن يمكن أن ينقسم إلى أعداد جنونية .. كأن هناك ضوءا باهرا مسلّطا عليها يجعل جسدها سطحا ممتدا بلا انحناءات أو ملامح .. كان جسدها يستقل ويكتسب كيانية خاصة .. أرادت أن تصرخ ، أو تجري هاربة من هذا الجسد الذي يهرب منها ..

….

هنا لم أعد قادرا على المواصلة .. سحبُ القصة في هذا الاتجاه أنهكني ، إلى درجة أني بدأت أشعر بركاكتي .. في الواقع ، ما قلتُه منذ أن بدأ صاحبنا يكتب الرسائل كان محض اختلاق مني .. ما حدث فعلا هو أنها لم تعبأ بالرسالة الأولى .. ألقتها جانبا دون أن تمنحها شرف تمزيقها ، ولم تتغير حتى استكانة حاجبيها ..

أما الرسالة الثانية ، فألقتها حتى قبل أن تتم قراءتها .. وامتلأ صاحبنا بقهر جنوني .. حتى إنه تركها تغادر السيارة ، وذهب إلى العادم ، وكان ما يزال ساخنا ينفث بعض غازاته ، والتقمه وأطبق شفتيه عليه ، وملأ صدره من الغاز ، وغاص في نوبة غائمة من اختناق وسعال ..

أما رسالته الثالثة ، فألقتها دون أن تفضّ الورقة .. وشوهد صاحبنا بعد حين ، ساهما ينظر إلى لاشيء .. ممسكا بيديه شبه المشلولتين أوراقا يفتّتها ببطء جليدي ، ويلقي بها إلى ثلاث حمامات تهدل بقربه ، تنقر فتات الورق وتبصقه.

 

هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات