إنه التماهي والتمثل اللاإرادي ذلك الذي يحدثنا عنه القاص المصري الشاب محمد أبوعوف، في قصته القصيرة “حَلْجٌ”، حيث يصف لنا نموذج الشعور بحسن التمثل في الحفلات الصوفية الذي ربما يعتري الكثير من الناس ولكن لا يقدر على وصفه غير الأديب المتمرس على حسن التمثل في كل إبداعاته.
يقدم لنا أبوعوف في هذه القصة تفاصيل الحالة الصوفية والعشق اللانهائي غير الموجّه الذي يعتري مشاهدي رقصات التنورة التي تضبط إيقاعاتها على نغمات الإنشاد الديني المستغرق في الحب الإلهي الزاهد في الدنيا.
ولكن ماذا إذا كانت هذه الحالة متخيلة أصلا؟.. فهنا تضاف براعة جديدة إلى براعة الوصف عند القاص يصل بإحساسه وذكائه إلى الحالة الصوفية، ومن أين؟.. من خلال حسن التمثل أيضا ليبرهن لنا على عبقريته في الوصف الممعن في استنطاق التفاصيل، وفي النفاذ إلى أعماق بؤر الشعور عبر تجلياتها الظاهرة ومكنوناتها الباطنة.
وينبهنا أبوعوف في نهاية قصته إلى طبيعتنا النفسية المستعدة في أوقات الصدق إلى تذوق الجمال والتماهي في لذته والتسامي به على ما سواه من ضجيج، بالتوازي مع تطميننا بأن ممارسة التماهي في الجمال لا تحتاج إلى تدريب، إنه يدعونا فقط إلى التأمل في الجمال والاستسلام لملامحه التي تحاول طوال الوقت أن تتلبس ملامح أرواحنا.
وفي تصريح إلى “عشرينات” قال القاص الشاب محمد أبوعوف إنه يعمل الآن على إنهاء رسالة الماجستير -وموضوعها عن أبي العلاء المعري- في أقرب وقت ليستكمل روايته الأولى التي أهملتها بسبب الرسالة لتكون العمل الثاني له بعد مجموعته القصصية “شبورة في وسط الطريق”.
وأوضح أبوعوف أنه يحاول في روايته أن يثبت قدميه في عالم النثر بشكليه القصصي والروائي لأن المجموعة الأولى كانت قصص قصيرة جدا ويوجد بها قصص من سطر واحد، أما الرواية فيحاول فيها أن يتجه بنفسه لفن الرواية ويخرج بعمل يعجب القارئ ويكون راضيا عنه.
وأشار القاص الشاب إلى أنه مستمر على التوازي في كتابة القصص القصيرة حيث كتب بالفعل قصتين، آملا أن ينتهي منها قريبا أيضا، وكشف أنه يريد فيها أن يخرج من عباءة القصة القصيرة جدا للقصة القصيرة وهذا على مستوى الشكل، وعلى مستوى المضمون من خلال البحث داخل نفس الإنسان، حيث كانت المجموعة الأولى (شبورة في وسط الطريق) تبحث وترصد الأحوال الخارجية للإنسان.
نص من رواية “حَلْجٌ”
يدق بقدميه دقات سريعة متتالية.. يصمت الجميع.. يرنو نحوها، مغمضة العينين، تشبك أصابع يديها وتمد ذراعيها وتحركهما حركات دائرية، تلمع عيناه بابتسامة ويصفق بيديه ثلاث مرات كدقات المسرح.
تنظر لقدميها تتحرك ببطء لمنتصف القاعة، يتحرك ناحية جهاز التسجيل، ويضغط زر التشغيل، يملأ المكان صوت محمد منير بأغنية “دنيا”، تحرك ذراعيها بشكل متداخل ولم تفتح عينيها، ترفع ساقها اليسرى وتبدأ في الدوران، يرتفع صوت منير “آه يادنيا يا دنيا يا دنيا، انتي يا دنيا يا دنيا يادنيا”
تنظر لأعلى بشكل أسرع تفك شعرها الذي تطاولت خصلاته، يظلم المكان ويضيئه الشموع: تلاحظ الكتابات المضاءة على الجدران:
– اقتلوني يا ثقاتي … إن في قتلي حياتي
– أنا عند محو ذاتي … من أجل المكرمات
– سئمت روحي حياتي … في الرسوم الباليات
رسوم التنورات المتحركة تملأ السقف، تدور بسرعة أكبر، تلمس النقوش بأناملها، يكمل منير: لو تكوني الحب الصافي لو تكوني يا دنيا ملاذي.
لا تترك ركنا في القاعة إلا وتلمسه، يدور راقصو التنورة بقبعاتهم العالية ويعلو صوت الناي، تهبط للأرض، يلتقطها المدرب جسدها النحيل ويرفعها للهواء ثانية.
– أدنو فيبعدني خوف فيقتلني
– شوق تمكن في مكنون أحشائي
ظلال ألوان التنورة تلون وجهها، تخفض رأسها وترفعها بحركات متتالية سريعة، يتسارع الإيقاع، تلمس قدماها الأرض، تثبت بهما، وتحرك ذراعاها ورأسها فقط.
5،4،3،2،1 يقترب المدرب ويمسك يدها ويقول:6
تفتح عيناها، بصرها شاخص، لا ترى المدرب، نظرت للسقف والحوائط، الحوائط بيضاء والألواح الرمادية الإسفنجية تغطي الأرضية.
تستكشف شعرها المربوط القصير، تلتقظ أنفاسها، تتجه لحقيبتها وتفتحها، تخرج منها زجاجة مياه صغيرة ترتشف رشفات قليلة، تضع رأسها بين ساقيها، يقع بصرها على بعض الأحرف التي تتكون ببطء على وجه القدم:
– عجبت لكلي كيف يحمله بعضي
محمد حمدي
هذه المواد من أرشيف محتوي موقع عشرينات
الوسومحمد أبوعوف رواية شبورة في وسط الطريق قصة "حَلْجٌ"